الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
وهذه غير الزيارة المشتركة التي تجوز فى قبور الكفار كما ثبت فى صحيح مسلم وأبى داود والنسائى وابن ماجه عن أبى هريرة أنه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، ثم قال: (استأذنت ربي فى أن أستغفر لها فلم يأذن لي، فاستأذنته أن أزور قبرها فأذن لى، فزوروا القبور، فإنها تذكركم الآخرة) فهذه الزيارة التي تنفع فى تذكير الموت تشرع ولو كان المقبور كافرًا، بخلاف الزيارة التي يقصد بها الدعاء للميت فتلك لا تشرع إلا فى حق المؤمنين . وأما الزيارة البدعية فهى التي يقصد بها أن يطلب من الميت الحـوائج، أو يطلب منـه الدعـاء والشفاعة، أو يقصـد الدعـاء عنـد قبره لظن القاصـد أن ذلك أجوب للدعاء، فالزيارة على هذه الوجوه كلها مبتدعة لم يشرعها النبى صلى الله عليه وسلم ولا فعلها الصحابة لا عند قبر النبى صلى الله عليه وسلم ولا عند غيره، وهى من جنس الشرك وأسباب الشرك. ولو قصد الصلاة عند قبور الأنبياء والصالحين من غير أن يقصد دعاءهم والدعاء عندهم، مثل أن يتخذ قبورهم مساجد، لكان ذلك محرمًا منهيًا عنه، ولكان صاحبه متعرضًا لغضب الله ولعنته، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم: (اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، وقال: (قَاتَل الله اليَهُودَ والنَّصَارى اتخَذُوا قُبُورَ أنْبِيَائِهم مَسَاجِدَ) يُحَذِّر ما صنعوا. وقال: (إن من كانَ قَبْلكم كَانُوا / يَتَّخِذُونَ القُبُورَ مَسَاجِدَ ألا فَلا تَتخِذُوا القُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّى أنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ). فإذا كان هذا محرما، وهو سبب لسخط الرب ولعنته، فكيف بمن يقصد دعاء الميت والدعاء عنده وبه، واعتقد أن ذلك من أسباب إجابة الدعوات، ونيل الطلبات وقضاء الحاجات ؟! وهذا كان أول أسباب الشرك فى قوم نوح وعبادة الأوثان فى الناس، قال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام، ثم ظهر الشرك بسبب تعظيم قبور صالحيهم . وقد استفاض عن ابن عباس وغيره فى صحيح البخارى وفى كتب التفسير وقصص الأنبياء فى قوله تعالى: وقد أحدث قوم من ملاحدة الفلاسفة الدهرية للشرك شيئًا آخر ذكروه فى زيارة القبور كما ذكر ذلك ابن سينا ومن أخذ عنه كصاحب الكتب المضنون بها وغيره، ذكروا معنى الشفاعة على أصلهم، فإنهم لا يقرون بأن الله خلق السموات والأرض فى ستة أيام، ولا أنه يعلم الجزئيات، ويسمع أصوات عباده، ويجيب دعاءهم . فشفاعة الأنبياء والصالحين على أصلهم ليسـت كمـا يعرفه أهل الإيمـان من أنها دعـاء يدعو به الرجل الصالح فيستجيب الله دعاءه، كما أن ما يكون من إنزال المطر باستسقائهم ليس سببه عندهم إجابة دعائهم . بل هم يزعمون أن المؤثر فى حوادث العالم هو قوى النفس أو الحركات / الفلكية أو القوى الطبيعية، فيقولون: إن الإنسان إذا أحب رجلا صالحا قد مات، لا سيما إن زار قبره، فإنه يحصل لروحه اتصال بروح ذلك الميت فيما يفيض على تلك الروح المفارقة من العقل الفعال عندهم أو النفس الفلكية، يفيض على هذه الروح الزائرة المستشفعة من غير أن يعلم الله بشىء من ذلك ـ بل وقد لا تعلم الروح المستشفع بها بذلك ـ ومثلوا ذلك بالشمس إذا قابلها مرآة فإنه يفيض على المرآة من شعاع الشمس، ثم إذا قابل المرآة مرآة أخرى فاض عليها من تلك المرآة، وإن قابل تلك المرآة حائط أو ماء فاض عليه من شعاع تلك المرآة، فهكذا الشفاعة عندهم، وعلى هذا الوجه ينتفع الزائر عندهم. وفى هذا القول من أنواع الكفر ما لا يخفى على من تدبره. ولا ريـب أن الأوثان يحصـل عندهـا من الشـياطين وخطابهم وتصـرفهم مـا هو من أسباب ضلال بنى آدم، وجعل القبور أوثانا هو أول الشرك؛ ولهذا يحصل عند القبور لبعض الناس من خطاب يسمعه وشخص يراه وتصرف عجيب؛ ما يظن أنه من الميت وقد يكون من الجن والشياطين، مثل أن يرى القبر قد انشق وخرج منه الميت وكلمه وعانقه، وهذا يرى عند قبور الأنبياء وغيرهم، وإنما هو شيطان، فإن الشيطان يتصور بصور الإنس ويدعى أحدهم أنه النبى فلان أو الشيخ فلان ويكون كاذباً فى ذلك. /أحدها: أن يقرأ آية الكرسى بصدق، فإذا قرأها تغيب ذلك الشخص أو ساخ فى الأرض أو احتجب، ولو كان رجلا صالحاً أو ملكا أو جنياً مؤمنا لم تضره آية الكرسى وإنما تضر الشياطين، كما ثبت فى الصحيح من حديث أبى هريرة لما قال له الجنى: اقرأ آية الكرسى إذا أويت إلى فراشك فإنه لا يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح. فقال النبى صلى الله عليه وسلم: (صَدَقَك وهو كَذُوب). ومنها: أن يستعيذ بالله من الشياطين. ومنها: أن يستعيذ بالعوذ الشرعية، فإن الشياطين كانت تعرض للأنبياء فى حياتهم وتريد أن تؤذيهم وتفسد عبادتهم، كما جاءت الجن إلى النبى صلى الله عليه وسلم بشعلة من النار، تريد أن تحرقه، فأتاه جبريل بالعوذة المعروفة التي تضمنها الحديث المروى عن أبى التَّيَّاح أنه قال: سأل رجل عبد الرحمن بن حُبَيْش، وكان شيخاً كبيراً قد أدرك النبى صلى الله عليه وسلم: كيف صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كادته الشياطين ؟ قال: تحدَّرت عليه من الشِّعاب والأوْدية، وفيهم شيطان معه شعلة من نار يريد أن يحرق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فرعب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه جبريل عليه السلام فقال: (يا محمد، قل، قال: ما أقول ؟ قال: قل: أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، من شر ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شر ما ينزل من السماء ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما يخرج من الأرض ومن شر ما ينزل فيها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق يطرق، إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن) قال: فطفئت نارهم وهزمهم الله عز وجل . / وثبت فى الصحيحين عن أبى هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن عفريتًا من الجن جاء يفتك بى البارحة ليقطع علىَّ صلاتى، فأمكننى الله ـ عـز وجـل ـ منه فَذَعَتُّه [أى خنقته. انظر: النهاية فى غريب الحديث 2/160] فأردت أن آخذه فأربطه إلى سارية من المسجد حتى تصبحوا فتنظروا إليه، ثم ذكرت قول سليمان عليه السلام: وعن عائشة: أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يصلى، فأتاه الشيطان فأخذه صلى الله عليه وسلم فصرعه فخنقه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حتى وجدت بَرْدَ لسانه على يدى، ولولا دعوة سليمان لأصبح موثقًا حتى يراه الناس) أخرجه النسائى، وإسناده على شرط البخارى كما ذكر ذلك أبو عبد الله المقدسى فى مختاره الذى هو خير من صحيح الحاكم. وعن أبى سعيد الخدرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلى صلاة الصبح وهو خلفه، فالتبست عليه القراءة، فلما فرغ من صلاته قال: (لو رأيتمونى وإبليس، فأهويت بيدى فما زلت أخنقه حتى وجدت برد لعَابِه بين إصبعى هاتين ـ الإبهام والتى تليها ـ ولولا دعوة أخى سليمان لأصبح مربوطاً بسارية من سوارى المسجد يتلاعب به صبيان المدينة، فمن استطاع ألا يحول بينه وبين القبلة أحد فليفعل) رواه الإمام أحمد فى مسنده وأبو داود فى سننه. وفى صحيح مسلم عن أبى الدرداء أنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى فسمعناه يقول: (أعوذ بالله منك) ثم قال: (ألعنك بلعنة الله) ثلاثا وبسط يده كأنه يتناول شيئاً، فلما فرغ من صلاته قلنا: (يا رسول الله، سمعناك تقول شيئاً فى الصلاة لم نسمعك تقوله قبل ذلك، ورأيناك بسطت يدك. قال: (إن عدو الله / إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله فى وجهى، فقلت: أعوذ بالله منك ثلاث مرات، ثم قلت: ألعنك بلعنة الله التامة، فاستأخر، ثم أردت أن آخذه ولولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقاً يلعب به ولدان المدينة). فإذا كانت الشياطين تأتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لتؤذيهم وتفسد عبادتهم، فيدفعهم الله تعالى بما يؤيد به الأنبياء من الدعاء والذكر والعبادة ومن الجهاد باليد، فكيف من هو دون الأنبياء ؟ فالنبى صلى الله عليه وسلم قَمَعَ شياطين الإنس والجن بما أيده الله تعالى من أنواع العلوم والأعمال، ومن أعظمها الصلاة والجهاد. وأكثر أحاديث النبى صلى الله عليه وسلم فى الصلاة والجهاد، فمن كان متبعاً للأنبياء نصره الله ـ سبحانه ـ بما نصر به الأنبياء. وأما من ابتدع دينا لم يشرعوه، فترك ما أمروا به من عبادة الله وحده لا شريك له واتباع نبيه فيما شرعه لأمته، وابتدع الغلو فى الأنبياء والصالحين والشرك بهم، فإن هذا تتلعَّب به الشياطين، قال تعالى: ومنها: أن يدعو الرائى بذلك ربه تبارك وتعالى ليبين له الحال . ومنهـا: أن يقـول لـذلك الشخـص: أأنـت فلان ؟ ويقسـم عليه بالأقسـام المعظمة، ويقرأ عليه قوارع القرآن إلى غير ذلك من الأسباب التي تضر الشياطين . وهذا كما أن كثيرا من العباد يرى الكعبة تطوف به، ويرى عرشاً عظيماً / وعليه صورة عظيمة، ويرى أشخاصاً تصعد وتنزل فيظنها الملائكة ويظن أن تلك الصورة هى الله ـ تعالى وتقدس ـ ويكون ذلك شيطانا. وقد جرت هذه القصة لغير واحد من الناس، فمنهم من عصمه الله وعرف أنه الشيطان كالشيخ عبد القادر فى حكايته المشهورة حيث قال: كنت مرة فى العبادة فرأيت عرشاً عظيماً وعليه نور، فقال لى: يا عبد القادر، أنا ربك وقد حللت لك ما حرمت على غيرك. قال: فقلت له: أنت الله الذى لا إله إلا هو ؟ اخسأ يا عدو الله. قال: فتمزق ذلك النور وصار ظلمة، وقال: يا عبد القادر، نجوت منى بفقهك فى دينك وعلمك وبمنازلاتك فى أحوالك. لقد فتنت بهذه القصة سبعين رجلاً. فقيل له: كيف علمت أنه الشيطان ؟ قال: بقوله لى: (حللت لك ما حرمت على غيرك)، وقد علمت أن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم لا تنسخ ولا تبدل، ولأنه قال: أنا ربك، ولم يقدر أن يقول: أنا الله الذى لا إله إلا أنا . ومن هؤلاء من اعتقد المرئى هو الله، وصار هو وأصحابه يعتقدون أنهم يرون الله تعالى فى اليقظة ومستندهم ما شاهدوه، وهم صادقون فيما يخبرون به، ولكن لم يعلموا أن ذلك هو الشيطان . وهذا قد وقع كثيراً لطوائف من جهال العباد، يظن أحدهم أنه يرى الله تعالى بعينه فى الدنيا؛ لأن كثيراً منهم رأى ما ظن أنه الله وإنما هو شيطان. وكثير منهم رأى من ظن أنه نبى أو رجل صالح أو الخضر وكان شيطاناً. وقد ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من رآنى فى / المنام فقد رآنى حقاً فإن الشيطان لا يتمثل فى صورتى). فهذا فى رؤية المنام؛ لأن الرؤية فى المنام تكون حقا وتكون من الشيطان فمنعه الله أن يتمثل به فى المنام، وأما فى اليقظة فلا يراه أحد بعينه فى الدنيا. فمن ظن أن المرئى هو الميت فإنما أتى من جهله، ولهذا لم يقع مثل هذا لأحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان . وبعض من رأى هذا ـ أو صدق من قال: إنه رآه ـ اعتقد أن الشخص الواحد يكون بمكانين فى حالة واحدة فخالف صريح المعقول. ومنهم من يقول: هذه رقيقة ذلك المرئى أو هذه روحانيته أو هذا معناه تشكل، ولا يعرفون أنه جنى تصور بصورته. ومنهم من يظن أنه ملك، والملك يتميز عن الجنى بأمور كثيرة، والجن فيهم الكفار والفُساق والجُهَّال، وفيهم المؤمنون المتبعون لمحمد صلى الله عليه وسلم تسليما، فكثير ممن لم يعرف أن هؤلاء جن وشياطين يعتقدهم ملائكة. وكذلك الذين يدعون الكواكب وغيرها من الأوثان تتنزل على أحدهم روح يقول: هى روحانية الكواكب، ويظن بعضهم أنه من الملائكة وإنما هو من الجن والشياطين يغوون المشركين . والشياطين يوالون من يفعل ما يحبونه من الشرك والفسوق والعصيان. فتارة يخبرونه ببعض الأمور الغائبة ليكاشف بها. وتارة يؤذون من يريد أذاه بقتل وتمريض ونحو ذلك . /وتارة يجلبون له من يريده من الإنس. وتارة يسرقون له ما يسرقونه من أموال الناس من نقد وطعام وثياب وغير ذلك، فيعتقد أنه من كرامات الأولياء وإنما يكون مسروقاً . وتارة يحملونه فى الهواء فيذهبون به إلى مكان بعيد. فمنهم من يذهبون به إلى مكة عَشِيَّة عرفة ويعودون به فيعتقد هذا كرامة، مع أنه لم يحج حج المسلمين: لا أحرم ولا لبَّى، ولا طاف بالبيت ولا بين الصفا والمروة، ومعلوم أن هذا من أعظم الضلال. ومنهم من يذهب إلى مكة ليطوف بالبيت من غير عمرة شرعية، فلا يحرم إذا حاذى الميقات. ومعلوم أن من أراد نسكاً بمكة لم يكن له أن يجاوز الميقات إلا محرماً، ولو قصدها لتجارة أو لزيارة قريب له أو طلب علم كان مأموراً أيضاً بالإحرام من الميقات، وهل ذلك واجب أو مستحب ؟ فيه قولان مشهوران للعلماء. وهذا باب واسع. ومنه السحر والكهانة، وقد بسط الكلام على هذا فى غير هذا الموضع. وعند المشركين عباد الأوثان ومن ضاهاهم من النصارى ومبتدعة هذه الأمة فى ذلك من الحكايات ما يطول وصفه، فإنه ما من أحد يعتاد دعاء الميت والاستغاثة به نبياً كان أو غير نبى إلا وقد بلغه من ذلك ما كان من أسباب ضلاله؛ كما أن الذين يدعونهم فى مغيبهم ويستغيثون بهم فيرون من يكون فى صورتهم، أو يظنون أنه فى صورتهم ويقول: أنا فلان ويكلمهم ويقضى بعض حوائجهم، فإنهم يظنون أن الميت المستغاث به هو الذى كلمهم وقضى مطلوبهم، وإنما هو من الجن والشياطين. /ومنهم من يقول: هو ملك من الملائكة، والملائكة لا تعين المشركين وإنما هم شياطين أضلوهم عن سبيل الله. وفى مواضع الشرك من الوقائع والحكايات التي يعرفها من هنالك ومن وقعت له ما يطول وصفه. فالأول يقول: إنما هذا خيال فى أنفسهم لا حقيقة له فى الخارج، فإذا قالوا ذلك لجماعة بعد جماعة، فمن رأى ذلك وعاينه موجودا أو تواتر عنده ذلك عمن رآه موجوداً فى الخارج وأخبره به من لا يرتاب فى صدقه، كان هذا من أعظم أسباب ثبات هؤلاء المشركين المبتدعين المشاهدين لذلك، والعارفين به بالأخبار الصادقة. ثم هؤلاء المكذبون لذلك متى عاينوا بعض ذلك، خضعوا لمن حصل له ذلك وانقادوا له واعتقدوا أنه من أولياء الله، مع كونهم يعلمون أنه لا يؤدى فرائض الله حتى ولا الصلوات الخمس، ولا يجتنب محارم الله؛ لا الفواحش ولا الظلم، بل يكون من أبعد الناس عن الإيمان والتقوى التي وصف الله بها أولياءه فى قوله تعالى: فيرون من هو من أبعد الناس عن الإيمان والتقوى له من المكاشفات / والتصرفات الخارقات ما يعتقدون أنه من كرامات أولياء الله المتقين. فمنهم من يرتد عن الإسلام وينقلب على عقبيه، ويعتقد فيمن لا يصلى، بل ولا يؤمن بالرسل، بل يسب الرسل، ويتنقص بهم أنه من أعظم أولياء الله المتقين. ومنهم من يبقى حائراً متردداً شاكاً مرتاباً يقدم إلى الكفر رِجْلا وإلى الإسلام أخرى، وربما كان إلى الكفر أقرب منه إلى الإيمان. وسبب ذلك: أنهم استدلوا على الولاية بما لا يدل عليها، فإن الكفار والمشركين والسحرة والكهان معهم من الشياطين من يفعل بهم أضعاف أضعاف ذلك. قال تعالى: وهؤلاء لابد أن يكون فيهم كذب وفيهم مخالفة للشرع، ففيهم من الإثم والإفك بحسب ما فارقوا أمر الله ونهيه الذى بعث به نبيه صلى الله عليه وسلم. وتلك الأحوال الشيطانية نتيجة ضلالهم وشركهم وبدعتهم وجهلهم وكفرهم، وهى دلالة وعلامة على ذلك . والجاهل الضال يظن أنها نتيجة إيمانهم وولايتهم لله تعالى، وأنها علامة ودلالة على إيمانهم وولايتهم لله سبحانه، وذلك أنه لم يكن عنده فرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان كما قد تكلمنا على ذلك فى مسألة [الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان]، ولم يعلم أن هذه الأحوال التي جعلها دليلا على الولاية تكون للكفار ـ من المشركين وأهل الكتاب ـ أعظم مما تكون للمنتسبين إلى الإسلام، والدليل مستلزم للمدلول مختص به لا يوجد بدون مدلوله، فإذا / وجدت للكفار والمشركين وأهل الكتاب لم تكن مستلزمة للإيمان فضلا عن الولاية، ولا كانت مختصة بذلك، فامتنع أن تكون دليلا عليه . وأولياء الله هم المؤمنون المتقون، وكراماتهم ثمرة إيمانهم وتقواهم، لا ثمرة الشرك والبدعة والفسق. وأكابر الأولياء إنما يستعملون هذه الكرامات بحجة للدين أو لحاجة للمسلمين. والمقتصدون قد يستعملونها فى المباحات. وأما من استعان بها فى المعاصى فهو ظالم لنفسه، مُتَعَدٍّ حد ربه، وإن كان سببها الإيمان والتقوى. فمن جاهد العدو فغنم غنيمة فأنفقها فى طاعة الشيطان، فهذا المال، وإن ناله بسبب عمل صالح، فإذا أنفقه فى طاعة الشيطان كان وبالا عليه، فكيف إذا كان سبب الخوارق الكفر والفسوق والعصيان وهى تدعو إلى كفر آخر وفسوق وعصيان ؟! ولهذا كان أئمة هؤلاء معترفين بأن أكثرهم يموتون على غير الإسلام. ولبسط هذه الأمور موضع آخر. ومن هؤلاء من يقول لذلك الشخص الذى رآه قد خرج من القبر: نحن لا نبقى فى قبورنا، بل من حين يقبر أحدنا يخرج من قبره ويمشى بين الناس. ومنهم من يرى ذلك الميت فى الجنازة يمشى ويأخذ بيده، إلى أنواع أخرى معروفة عند من يعرفها. وأهل الضلال إما أن يكذبوا بها وإما أن يظنوها من كرامات أولياء الله، ويظنون أن ذلك الشخص هو نفس النبى أو الرجل الصالح أو ملك على صورته، وربما قالوا: هذه روحانيته أو رقيقته أو سره أو مثاله أو روحه تجسدت، حتى قد يكون من يرى ذلك الشخص فى مكانين فيظن أن الجسم الواحد يكون فى الساعة الواحدة فى مكانين، ولا يعلم أن ذلك حين تصور بصورته ليس هو ذلك الإنسى. وهذا ونحوه مما يبين أن الذين يدعون الأنبياء والصالحين بعد موتهم عند قبورهم وغير قبورهم، هم من المشركين الذين يدعون غير الله، كالذين يدعون الكواكب والذين اتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً، قال تعالى: فمن رأى نبياً أو ملكاً من الملائكة وقال له: [ادع لي] لم يفض ذلك إلى الشرك به، بخلاف من دعاه فى مغيبه، فإن ذلك يفضى إلى الشرك به كما قد وقع، فإن الغائب والميت لا ينهى من يشرك، بل إذا تعلقت القلوب بدعائه وشفاعته أفضى ذلك إلى الشرك به فدعى وقصد مكان قبره أو تمثاله أو غير ذلك، كما قد وقع فيه المشركون ومن ضاهاهم من أهل الكتاب ومبتدعة المسلمين. ومعلوم أن الملائكة تدعو للمؤمنين وتستغفر لهم كما قال تعالى : فالملائكة يستغفرون للمؤمنين من غير أن يسألهم أحد، وكذلك ما روى أن النبى صلى الله عليه وسلم أو غيره من الأنبياء والصالحين يدعو ويشفع للأخيار من أمته هو من هذا الجنس، هم يفعلون ما أذن الله لهم فيه بدون سؤال أحد . وإذا لم يشرع دعاء الملائكة لم يشرع دعاء من مات من الأنبياء والصالحين، ولا أن نطلب منهم الدعاء والشفاعة وإن كانوا يدعون ويشفعون، لوجهين : أحدهما: أن ما أمرهم الله به من ذلك هم يفعلونه وإن لم يطلب منهم، وما لم يؤمروا به لا يفعلونه ولو طلب منهم فلا فائدة فى الطلب منهم . الثانى: أن دعاءهم وطلب الشفاعة منهم فى هذه الحال يفضى إلى الشرك بهم ففيه هذه المفسدة. فلو قدِّر أن فيه مصلحة لكانت هذه المفسدة راجحة، فكيف ولا مصلحة فيه، بخلاف الطلب منهم فى حياتهم وحضورهم فإنه لا مفسدة / فيه، فإنهم ينهون عن الشرك بهم، بل فيه منفعة، وهو أنهم يثابون ويؤجرون على ما يفعلونه حينئذ من نفع الخلق كلهم، فإنهم فى دار العمل والتكليف، وشفاعتهم فى الآخرة فيها إظهار كرامة الله لهم يوم القيامة . وأصل سؤال الخلق الحاجات الدنيوية التى لا يجب عليهم فعلها ليس واجباً على السائل ولا مستحباً، بل المأمور به سؤال الله تعالى والرغبة إليه والتوكل عليه. وسؤال الخلق فى الأصل محرم، لكنه أبيح للضرورة، وتركه توكلاً على الله أفضل، قال تعالى: وأما فى الحسب فأمرهم أن يقولوا: {حَسْبُنَا اللّهُ} لا يقولوا: حسبنا الله ورسوله. ويقولوا:
|